الكنيسة الإنجيلية ودورها الوطني في مصر
يوليو 26, 2024الكنيسة الإنجيلية ودورها الوطني في مصر
يوليو 26, 2024الكنيسة الإنجيلية ودورها الوطني في مصر
Contents
د. ق. ثروت وهيب وهبة
كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة
نشأت الكنيسة الإنجيلية المصرية كنتيجة طبيعية لحركة الإصلاح الإنجيلي التي ظهرت في أوروبا في القرن السادس عشر. فقد دخل مصر بعض المرسلين الذين ينتمون إلى كيانات إنجيلية غربية مثل اللوثريين الذين جاءوا إلى مصر في القرن السابع عشر، ولكن لم يستمروا طويلاً. كما جاء المورافيون من أواسط أوروبا وعملوا في مصر منذ عام1752 حتى عام 1782، وكانت خدمتهم تشمل العمل الطبي والخدمة الروحية. ثم جاء بعدهم الإنجيليكان متمثلين في هيئتهم “هيئة الكنيسة المرسلية” CMS، وأسسوا خدمتهم عام 1825، وعملوا على تنمية الكنيسة القبطية المصرية وافتتحوا عددًا من المدارس والمستشفيات، واستمروا في الخدمة كمرحلة أولى حتى عام 1863. لم تسع الهيئات المرسلية السابق ذكرها إلى تأسيس كنائس جديدة بل سعت إلى محاولة إصلاح الكنيسة المصرية، التي كانت قد وصلت إلى حالة تحتاج للنهضة في مجالات مثل التعليم والرعاية وتأهيل رجال الدين، ومقاومة الجهل والخرافات، ونشر الكتاب المقدس، وتطوير الوعظ والترنيم والخدمة في مجال التربية المسيحية للأطفال والشباب وتطوير التعليم اللاهوتي.
استمرت الأوضاع الكنسية والروحية في مصر راكدة إلا قليلاً حتى عام 1854 عندما وصل المرسلون الأمريكان التابعون لإحدى الكنائس المشيخية في أمريكا، والذين كانوا قد بدأوا خدمتهم في سوريا ولبنان منذ عام 1818. جاء هؤلاء المرسلون وفي قلبهم تقديم المساعدة الروحية اللازمة لشعب مصر. وبعد سنوات قليلة من خدمتهم وضعوا أيديهم على الاحتياجات الحقيقية للشعب المصري فوجدوها تتمثل في مجالات التعليم والصحة بالإضافة إلى الاحتياجات الروحية. وعليه ركزت الإرسالية الأمريكية جهودها في إقامة المدارس للبنين والبنات وإنشاء المستشفيات. أما على الجانب الروحي فقد أنشأت الإرسالية الأمريكية الكنيسة الإنجيلية المصرية بمؤسساتها التعليمية واللاهوتية والاجتماعية. وسرعان ما استوعب المصريون الرؤية الجديدة وظهرت قيادات مصرية أخذت زمام القيادة لتتحول الكنيسة إلى كنيسة وطنية تعمل على خدمة ورقي المجتمع المصري. ثم توالت بعد ذلك الهيئات المرسلية من طوائف إنجيلية أخرى فنشأت كنائس جديدة تنتمي لاتجاهات لاهوتية متنوعة مثل الكنائس الرسولية والخمسينية ونهضة القداسة والأخوة والأخوة المرحبين والمعمدانية بالإضافة إلى الكنيسة الأسقفية، وغيرها من الكنائس التي أسهمت في إحداث تأثير حقيقي في المجتمع المصري في كثير من المجالات.
بعد هذه المقدمة التاريخية تستعرض هذه الدراسة ثلاثة من أهم المجالات التي أسهمت فيها الكنائس الإنجيلية المصرية بمختلف مذاهبها من أجل خدمة المجتمع وإعلاء قيم ملكوت الله.
أولاً: التأثير الروحي
حركت الكنائس الإنجيلية المصرية البيئة الروحية الراكدة في مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر. فكما سبق القول فإن الحالة الروحية التي كانت عليها الكنيسة المصرية كانت تواجه تحديات كبيرة، بشهادة المؤرخين الأقباط أنفسهم. وقد كان لدخول الكنائس الإنجيلية بأفكارها اللاهوتية المصلحة وبممارساتها الدور الأكبر في تغيير الصورة الروحية في مصر وقد تمثل التأثير الروحي للكنائس الإنجيلية في:-
1- انتشار الكتاب المقدس
اعتمد المسيحيون المصريون حتى القرن التاسع عشر على وجود الكتاب المقدس داخل الكنيسة باللغة القبطية وندرت الترجمات العربية في أيدي المصريين. ولكن بدخول العمل الإنجيلي إلى مصر سعت الكنائس والهيئات الإنجيلية إلى توفير الكتاب المقدس باللغة العربية للمصريين كافة.
ولقد لعبت ترجمة ﭬـان دايك/سميث دورًا بارزًا استمر منذ عام 1865 حتى اليوم في صياغة العقلية المصرية المسيحية من ناحية التعبيرات الكتابية. وبالرغم من عدم قبول هذه الترجمة في البداية بل ومقاومتها، إلا أن اليوم لا تقبل الكنائس الصرية غير ترجمة ﭬـان دايك/سميث للكتاب المقدس وتعتبر سواها ترجمات غير معترف بها.
وقد لعبت دار الكتاب المقدس المصرية دورًا بارزًا في انتشار الكتاب المقدس من خلال إقامة المكتبات في أنحاء القطر المصري ومن خلال وجود شبكة نشيطة من الموزعين حتى تجاوز ما توزعه دار الكتاب المقدس من المطبوعات الكتابية المختلفة ملايين النسخ خلال السنوات العشرين الأخيرة. وكان لانتشار وسائل الاتصال الحديثة، كالقنوات الفضائية وشبكة الانترنت والتليفون الجوال، دورًا كبيرًا في نشر كلمة الله بطرق حديثة ومعاصرة جعلت الكتاب المقدس في متناول كل يد وداخل كل بيت. واليوم في مصر نجد الشباب المسيحي وعلى رأسهم الشباب القبطي الأرثوذكسي يحملون الكتب المقدسة إلى كنائسهم ومجموعاتهم الدراسية يقرأون ويحفظون ويتبارون في الإلمام بالكتاب المقدس. لقد لعبت الكنائس الإنجيلية ومؤسساتها دورًا هامًا في انتشار الكتاب المقدس لكل طوائف الشعب المصري وهو أمر يساهم في إعادة تشكيل الخريطة الروحية لمصر.
2- الوعظ والترنيم
لم تعرف الكنائس المصرية الوعظ إلا قليلاً خلال العصور المظلمة في تاريخ الكنيسة. وكان الوعظ قاصرًا على بعض القادة الكنسيين في المناسبات العامة، ولم يكن موجودًا في ليتورﭼـية العبادة داخل الكنائس. ولكن الكنائس الإنجيلية مارست الوعظ داخل الكنائس بصورة منتظمة ودربت قادتها على القيام بهذا الأمر بطريقة احترافية مما شجع الكنائس الأخرى لكي تمارس الوعظ ويصبح جزءًا من الممارسات الكنسية ولقد تغير الوعظ من كونه سردًا لبعض القصص والمواعظ بلغة كلاسيكية، غير مفهومة في بعض الأحيان، إلى وعظ كتابي تفسيري يشرح الكتاب المقدس ويربط المفاهيم الكتابية بالواقع المعاصر. ولقد أصبح الوعظ الإنجيلي هو النموذج الأكثر انتشارًا في مصر وساد على كل الكنائس من كل الطوائف لما فيه من مفاهيم روحية وعملية أيضًا.
أما عن الترنيم فلقد تطور بصورة هائلة عبر السنين ففي عصر ما قبل دخول الكنيسة الإنجيلية مصر لم تعرف مصر إلا الألحان القبطية القديمة التي كانت تحفظ عن ظهر قلب، وتردد حتى دون فهم معانيها، في بعض الأحيان. ولكن بدخول الكنائس الإنجيلية تمت ترجمة العديد من الترانيم من اللغة الإنجليزية، ونظمت بطريقة جيدة ورنمت بالألحان الغربية. كان هذا في المرحلة الأولى من دخول الترنيم إلى مصر. ثم تطور الترنيم إلى أن أصبح أحد أهم الوسائل التي تجذب الكثيرين إلى الكنيسة بل وإلى المسيحية. لقد أجاد كثير من الإنجيليين المصريين في تأليف وتلحين الترانيم بطريقة تجمع بين الفكر اللاهوتي وبين الألحان التي تتناسب مع شرائح مختلفة من الشعب المصري. فهناك الترانيم ذات الألحان الغربية السريعة التي تجذب شريحة كبيرة من الشباب، وكذلك هناك الترانيم ذات الألحان الشرقية التي تستهوي عامة الشعب. كما احتفظت الترانيم الكلاسيكية القديمة بمكانتها في بعض الكنائس. اخترقت هذه الأساليب الكنيسة القبطية بل ووجدت لها سبيلاً إلى الساحة العامة إذ يستمع كثير من المصريين إلى الترانيم المسيحية في بعض المناسبات العامة سواء في وسائل الإعلام المختلفة أو في بعض اللقاءات المفتوحة. لقد لعبت الكنيسة الإنجيلية دورًا كبيرًا في تطوير الترنيم الذي يحمل في طياته الرسالة المسيحية بصورة تناسب الأعمار والشرائح المجتمعية المختلفة مما أحدث تأثيرًا روحيًا حقيقيًا في مصر.
3- التعليم اللاهوتي
تحرص الكنائس الإنجيلية المصرية على تعليم قادتها وشعبها تعليمًا لاهوتيًا عميقًا. فبعد بداية العمل الإنجيلي في مصر بأقل من عشر سنوات تم تأسيس فصل للتعليم اللاهوتي بغرض إعداد رعاة وقادة للكنيسة الإنجيلية. ولقد تطور الأمر حتى أصبح للكنائس الإنجيلية المصرية أكثر من عشر كليات لاهوت متفاوتة المستوى العلمي والأكاديمي ومتنوعة في توجهاتها اللاهوتية. وتلعب كليات اللاهوت دورًا كبيرًا ليس فقط في إعداد رعاة وخدام متفرغين للخدمة داخل الكنائس المختلفة، ولكن أيضًا في تعليم وإعداد قادة علمانيين للكنيسة والمجتمع. فالعديد من كليات اللاهوت تفتح أبوابها لتعليم شعب الكنيسة في المجالات اللاهوتية المتنوعة، وتمنح هذه الكليات درجات علمية ودراسات تساعد الدراسين على الإلمام بلاهوت وعقيدة كنيستهم كما تزودهم بأدوات الخدمة الحديثة والمعاصرة. ولقد تأثرت الكنائس غير الإنجيلية بهذا الأمر فأنشأت كليات لاهوت خاصة بها تقوم بإعداد الخدام للخدمة داخل هذه الكنائس. وأدى ذلك التعليم اللاهوتي المتطور إلى وجود أجيال من الباحثين في مجالات اللاهوت المختلفة وكذلك ظهور العديد من الكتب والمراجع والتفاسير التي تُغني المكتبة اللاهوتية العربية مما ساعد على بزوغ اتجاهات لاهوتية عربية تشق طريقها بتؤدة بين الاتجاهات اللاهوتية العالمية.
ولا يقتصر التأثير الروحي للكنيسة الإنجيلية على المجالات السابق ذكرها، ولكن هناك مجالات أخرى يضيق المجال عن ذكرها مثل مجالات الكرازة والعمل المرسلي، والرعاية، والتربية المسيحية، والمشورة المسيحية، وخدمة الأجيال المختلفة من الأطفال والفتية والشبيبة والأسرة والمسنين وغيرها من الفئات. هذا بالإضافة إلى مجالات الخدمة الروحية بين غير المسيحيين والنتائج المشجعة لهذه الخدمة بالإضافة إلى الخدمة الروحية بين الجاليات العربية في بلاد المهجر وغيرها من البلدان. كل هذه المجالات تظهر التأثير الروحي المتزايد الذي تقوم به الكنائس الإنجيلية المصرية بمختلف مذاهبها مما يصبغ المستقبل الروحي للبلاد بمزيد من الرجاء والأمل.
ثانيًا: التأثير الاجتماعي
منذ بداية تواجدها على أرض مصر حرصت الكنائس الإنجيلية بمختلف مذاهبها على الانخراط في الحياة الاجتماعية للوطن. وعلى الرغم من وجود بعض التيارات اللاهوتية بين بعض المذاهب الإنجيلية التي تنادي بانعزال الكنيسة عن العالم وبالتالي عدم المشاركة المجتمعية، إلا أن هذه التيارات لا تعد هي السائدة بين الكنائس الإنجيلية اليوم. بل يغلب التيار الذي ينادي بأن للكنيسة دور في خدمة المجتمع والتأثير الإيجابي في أعضاء المجتمع بمختلف فئاتهم. ولقد شمل تأثير الكنيسة الاجتماعي على المجتمع المصري في عدة جوانب نذكر منها على سبيل المثال:
1- التعليم
يُعد التعليم هو المجال الأكبر الذي شاركت فيه الكنائس الإنجيلية المجتمع المصري وحققت فيه أعظم الانجازات سواء تاريخيًا أو في الوقت الحالي. فمنذ بداية العمل الإنجيلي في مصر، أدرك المرسلون ومن بعدهم قادة الكنيسة من المصريين أن حاجة الوطن في المرحلة ما بين منتصف القرن التاسع عشر لمدة قرن من الزمان هي إلى التعليم. فلقد وفرت الكنيسة الإنجيلية عددًا من المدارس قدمت مستوى راقٍ من التعليم يفوق ما كان مقدمًا من المؤسسات التعليمية الحكومية. ولقد بلغ انتشار المدارس التابعة للكنائس الإنجيلية في بدايات القرن العشرين إلى حد أن عدد هذه المدارس فاق عدد المدارس التي تديرها الحكومة!
ولقد سعت الكنائس الإنجيلية لربط وجود الكنيسة في مدينة أو قرية ما بوجود المدرسة في أغلب الأحيان، ووجود المستشفى في بعض الأحيان. ولقد لعبت المدارس الإنجيلية دورًا بارزًا في إعداد أجيال من المتعلمين والمثقفين المصريين في مختلف المجالات. فلقد تخرج في المدارس الإنجيلية الوزراء، والأطباء، والمعلمون، والمهندسون، وقادة الفكر، والفن والصحافة. ومن المدارس الإنجيلية خرجت دعاوى الحرية السياسية وتحرير المرأة وحقوق الأقليات والنزعة القومية الوطنية وغيرها من الدعاوى التي ساهمت في تطوير الأداء الاجتماعي للوطن.
حرصت الكنائس الإنجيلية كذلك على المساهمة في العملية التعليمية في المدارس التابعة لها حيث كان الكتاب المقدس يدرس لكل التلاميذ من كل الخلفيات الدينية وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى عام 1946. كما كان على كل الطلاب حضور فترات العبادة اليومية بقاعة العبادة الملحقة بكل مدرسة. ولقد لعبت هذه المدارس دورًا بارزًا في نشر روح التسامح بين الطلاب من كافة الديانات مما أوجد مجالاً لقبول ليس فقط الإنجيليون، ولكن كل المسيحيين؛ لأن أهالي البلدان التي توجد فيها المدارس الإنجيلية أدركوا بالامتنان الدور التنويري الذي لعبته المدارس في تعليم أبنائهم على أعلى مستوى علمي وأخلاقي، وحتى عندما واجهت مصر بعض الهجمات الإرهابية والأحداث بين المسلمين والمسيحيين لم تتعرض أية كنيسة أو مدرسة إنجيلية لأي أذى بسبب محبة كل أطياف المجتمع للكنيسة ومؤسساتها وللدور الذي لعبته في تعليم الأجيال.
واليوم فبالرغم من تناقص أعداد المدارس التابعة للكنائس الإنجيلية في العدد، إلا أن أعداد التلاميذ فيها يُعد بعشرات الآلاف، كما أن جودة التعليم والأخلاق التي تقدم في هذه المدارس جعل الإقبال عليها يفوق الوصف حتى إن بعض المدارس يتقدم إليها بضعة آلاف من التلاميذ في الوقت الذي تستوعب فيه المدارس عدة مئات من المتقدمين الجدد مما يعكس مدى الثقة التي توليها طوائف المجتمع المختلفة للتعليم الذي تقدمه الكنائس الإنجيلية من خلال مدارسها.
2- الخدمة الطبية
عانت مصر لفترة طويلة من تاريخها الحديث من تدني الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين. ولقد أدركت الكنائس الإنجيلية هذه المعاناة وسعت بما استطاعت الحصول عليه من موارد مالية أو بشرية إلى إقامة المستشفيات والعيادات لخدمة حاجة الإنسان المصري الصحية. لذا، أنشأت بعض الكنائس الإنجيلية مثل الكنيسة المشيخية والكنيسة الأسقفية وبعض الكنائس الأخرى عددًا من المستشفيات. ولعبت هذه المستشفيات دورًا بارزًا في تقديم خدمة طبية متميزة حرصت على المستويات القياسية والمعايير العلمية لتقديم الخدمة الطبية، كل ذلك بمصاحبة أداء أخلاقي إنساني مسيحي كتابي رفيع المستوى. ولقد ساهم الإنجيليون المصريون في إنشاء وتقديم الدعم المادي للعديد من المستشفيات والعيادات. كما عمل الأطباء الإنجيليون في هذه المستشفيات متطوعين في أغلب الأحيان أو بأجور رمزية في أحيان أخرى. وكان الهدف هو تسديد حاجة متزايدة للمجتمع المصري للحصول على هذا النوع المتميز من العناية الطبية كما أنها كانت ومازالت وسيلة ناجحة لإظهار المحبة والسلوك المسيحيين مما يجذب كثيرين للإيمان المسيحي الذي يشاهدونه بطريقة عملية. وبالإضافة للمستشفيات الكبيرة التي تملكها بعض المذاهب الإنجيلية، هناك العشرات من الوحدات الطبية الصغيرة المسماة بالمستوصفات التي تنتشر في مدن مصر وقراها. وتدار هذه المستوصفات بمعرفة الكنائس المحلية.
3- الخدمة الاجتماعية
تعددت المجالات التي خدمت فيها الكنيسة الإنجيلية بمختلف مذاهبها المجتمع المصري. فبالإضافة للتعليم والخدمة الطبية شملت خدمة الكنيسة الكثير من أطياف وظواهر المجتمع مثل خدمة المرأة، والمهمشين، والمدمنين، وذوي الاحتياجات الخاصة، والأيتام وغيرهم. كما شملت الخدمة الاجتماعية مجالات تنمية القرية وتنظيم الأسرة والتنمية المستدامة ومواجهة الظواهر الاجتماعية السلبية وتعزيز قيم المشاركة المجتمعية.
حدثت كل هذه الأمور بشكل متدرج عبر تاريخ الكنائس الإنجيلية. ففي البدايات المبكرة خدمت الكنيسة الأسرة المصرية عن طريق خدمة النساء في بيوتهن. فقد خصصت الكنيسة بعض الخادمات من المرسلات والوطنيات للقيام بزيارة البيوت وتقديم النصح والإرشاد للنساء في مجالات تربية الأطفال، والأشغال البيئية، والخياطة، والتوعية الصحية بالإضافة إلى مشاركة الإنجيل. وفي الوقت ذاته لعب الإنجيليون دورًا بارزًا في التصدي لبعض الظواهر الاجتماعية السلبية. ففي نهايات القرن التاسع عشر حارب الإنجيليون ظاهرة العبودية. ففي إحدى المرات منعت الكنيسة أحد أعضائها من الحصول على منصب وكيل الطائفة الإنجيلية حتى يحرر العبيد الذين كانوا بحوزته وقد فعل ذلك. كما عملت الكنيسة مع الحكومة المصرية على التوعية الشعبية والمشاركة الفعالة لإبطال هذه الظاهرة حتى نجحت في ذلك. وفي بدايات القرن العشرين تصدت الكنيسة لظاهرة التدخين وشرب الخمر وتعاطي المخدرات وأسست بعض الجمعيات الأهلية للتوعية والتوجيه.
أما في مجال رعاية الأيتام فلقد ساهمت الكنائس الإنجيلية في إقامة عدد من الدور لاستيعاب الأطفال الذين فقدوا ذويهم في كثير من المدن مثل القاهرة، وأسيوط والإسكندرية وغيرها. ولعل ملجأ ليليان تراشر بمدينة أسيوط خير شاهد على الدور التاريخي الذي لعبته ليليان تراشر في هذا المجال وتسلمت منها الكنيسة الرسولية هذه الخدمة حتى اليوم بما يمثل شهادة لامعة عن عمل الله في البلاد المصرية.
وتشمل الخدمة الاجتماعية التي تقوم بها الكنائس الإنجيلية كذلك خدمة بعض الفئات التي تعاني احتياجًا مثل ذوي الاحتياجات الخاصة من الناحية الجسدية، أو العقلية، أو السمعية حيث توجد بعض المؤسسات الإنجيلية التي توفر خدمة متميزة تحاول أن تساند الأفراد والأسر التي تواجه مثل هذه الظروف. لا يقتصر الأمر على المذاهب الإنجيلية الكبيرة، ولكن يمتد كذلك إلى بعض الكنائس المحلية التي توفر أماكن وخدمات صحية واجتماعية وروحية لهذه الفئات الأكثر احتياجًا.
وتعد خدمة الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية نموذجًا للمؤسسات الإنجيلية الاجتماعية التي تربط بين الكنيسة والمجتمع. فمنذ نشأتها في خمسينيات القرن العشرين وتحت القيادة المتميزة للقس صموئيل حبيب قامت هذه الهيئة بخدمة احتياجات المجتمع خاصة القروي. وتتعدد المجالات التي قامت وتقوم بها الهيئة الإنجيلية تتشمل مشاريع محو الأمية، والتوعية الصحية، والتنمية الريفية المستدامة، والمجالات الزراعية، والقروض الصغيرة، وخدمة المرأة بالإضافة إلى التدريب على مهارات فض النزاعات وصنع السلام وغيرها من المجالات. وللهيئة الإنجيلية تواجد في الشارع المصري ووسائل الإعلام لما لها من خطاب معتدل يجذب النخبة ومما لها من مصداقية في شهادتها وخدمتها بنتها عبر السنين.
ولقد حدث تطور عبر السنين عن مشاركة الكنيسة للمجتمع. فلقد قلتت النغمة التي كانت سائدة من قبل والتي نادت بانعزال الكنيسة عن المجتمع واقتصار دورها على خدمة أعضائها. ولكن أصبح هناك الآن وعي أكبر بدور الكنيسة النبوي في تقديم الحق والخير والجمال للمجتمع من خلال خدمة الحاجات الحقيقية وتقديم الرسالة المسيحية في صورة عملية.
ثالثًا: التأثير السياسي
رغم أن الكنيسة لا تعمل بالسياسة إلا أنها تهتم بها. فالكنيسة تعيش في مجتمعها وتتأثر بالأحداث السياسة التي تحيط بها، فتتفاعل وتظهر مواقفها المتصالحة مع مبادئها. ولا يقتصر دور الكنيسة على مجرد المراقبة والتأييد أو الشجب، ولكن عليها دور الراعي لتطبيق مبادئ ملكوت الله من حق وبر وعدل ومساواة وكرامة لكل إنسان. ولقد حاولت الكنيسة الإنجيلية المصرية بمذاهبها المتنوعة لعب دور سياسي، وإن كان محدودًا، ولكنه دور مؤثر. ففي المراحل التاريخية المبكرة من وجودها في مصر، تفاعلت الكنيسة مع التطورات السياسية في مصر. فمن ناحية حاولت الكنيسة أن تقيم علاقات متوازنة مع المؤسسة الحاكمة في مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولكن حين اصطدمت خدمتها بقوانين البلاد التي تقف حائلاً أمام اعتناق الأفراد الدين الذي يريدونه، وقفت الكنيسة وكذلك الإرسالية العاملة مع الكنيسة أمام الحاكم حتى انتزعت حقها بمعاونة دولية وهو ما يسطره لنا التاريخ في تلك الفترة.
وعندما جاء الاحتلال البريطاني إلى مصر عام 1882، ظن البعض أن المستعمر سيكون نصيرًا للمسيحيين وللخدمة المسيحية. ولكن خابت آمال الكثيرين حين وجدوا أن المستعمر لا يهتم بالشأن الديني، بل جعل جل اهتمامه بالجانب السياسي. بل على العكس فلقد حاجى المستعمر الأغلبية المسلمة من الشعب المصري على حساب المسيحيين، مما جعل الخدمة المسيحية أصعب تحت الحكم الإنجليزي عنه في أواخر الحكم العثماني الذي سيطر على مصر قبل ذلك. وما يؤيد هذا الرأي هو الصورة السلبية التي نظر بها الإنجليز للأقباط المصريين وإتهامهم بالجهل والخداع والكذب. كل هذه الدلائل تنفي بصورة قاطعة الرأي القائل أن الإرساليات الإنجيلية وبالتالي الكنائس الإنجيلية هي صنو الاستعمار؛ فحقائق التاريخ تثبت أن الكنيسة الإنجيلية هي كنيسة وطنية تفاعلت مع تعاليم الإصلاح الإنجيلي واحتفظت بجذورها في التربة الوطنية المصرية فشاركت في حياة الوطن.
وحين هبت جموع الشعب المصري في وجه الاستعمار البريطاني عام 1919، لعب الإنجيليون دورًا بارزًا في إذكاء الروح الوطنية والمشاركة الإيجابية في الوقوف أمام الاستعمار. وهناك العديد من الشخصيات ذات الأصول الإنجيلية والتي تنتمي لكبريات العائلات الإنجيلية خاصة في صعيد مصر التي شاركت بإيجابية في أحداث الثورة. ومن هذه الشخصيات تبرز شخصية مكرم عبيد الذي تعلم في كلية أسيوط الأمريكية التابعة للإرسالية الأمريكية في مصر. وقد لعب دورًا بارزًا في الحياة السياسية المصرية فكان عضوًا في مجلس النواب ووزيرًا ورئيسًا لحزب ولاعبًا أساسيًا في الحياة السياسية المصرية. وهناك كذلك الكسان أبسخيرون الذي لعب دورًا وطنيًا بارزًا وكان عضوًا في مجلس النواب المصري. وكذلك ﭼـورچ خياط.
أما أبرز الشخصيات التي لعبت دورًا مهمًا في الحركة السياسية والاجتماعية في مصر فهي أستر فهمي ويصا التي وقفت أمام الاستعمار البريطاني. وأستر هي سليلة أكبر العائلات الإنجيلية في صعيد مصر وهي عائلة أخنوخ فـانوس. تعلمت أستر في مدرسة البنات الأمريكية بأسيوط وتخرجت فيها عام 1910. ترأست أستر ويصا العديد من الجمعيات واللجان الحزبية في حزب الوفد والجمعيات النسائية. وعرف عنها المناداة بحقوق المرأة والدعوة لمقاومة الاستعمار. وقد كتبت أستر ويصا عشرات الخطابات إلى اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر تدافع عن حق بلادها في الحرية والاستقلال. وعندما هدأت الأمور من الناحية السياسية، اتجهت أستر ويصا للعمل الاجتماعي حيث أسست عددًا من الجمعيات الخاصة بالخدمة الاجتماعية مثل جمعية العمل لمصر، والاتحاد النسائي المصري.
وعندما شرعت الدولة المصرية في كتابة دستور جديد للبلاد عام 1923، ساهمت الكنيسة الإنجيلية بأكثر من طريقة. ففي الجمعية التأسيسية المنوطة بكتابة الدستور الجديد اشترك ستة من الإنجيليين في هذه الصياغة. وعلى التوازي مع ذلك شكلت الكنيسة الإنجيلية لجنة من أبنائها تضع مواد في الدستور تضمن حرية العبادة والاعتقاد وحقوق الإنسان ورفعتها للجنة التأسيسية. وقد أخذ المنوطون بوضع الدستور الجديد بالعديد من الأفكار التي طالب بها الإنجيليون.
تثبت مساهمات الإنجيليين في الحياة السياسية المصرية أن الكنيسة من خلال أفرادها هي عنصر هام في المجتمع وليست بمعزل عن قضاياه. ظهر هذا أيضًا حينما نشبت مشكلة فلسطين حيث علا صوت الكنيسة الإنجيلية مناديًا بالحرية والاستقلال لشعب فلسطين. كما قدمت الكنيسة الإنجيلية بكل مذاهبها المعونات المادية والعينية لإغاثة الشعب الفلسطيني، وكتبت الأقلام الإنجيلية منددة بالاستعمار الصهيوني وشارحة لمعنى إسرائيل في الكتاب المقدس من وجهة نظر إنجيلية مصرية.
وساندت الكنيسة الإنجيلية بلادها في أوقات الحروب عام 1956 وعند حدوث هزيمة 1967 وأيام انتصار أكتوبر عام 1973. وعندما بادرت الحكومة المصرية بإقامة سلام مع إسرائيل وتوقيع معاهدة بهذا المعنى أيدت الكنيسة الإنجيلية هذه الخطوة وشرحتها في المحافل المسكونية والدولية.
وفي أيامنا الحاضرة تفاعلت الكنيسة الإنجيلية مع قضايا الوطن تفاعلاً إيجابيًا. فلقد أصدرت رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر العديد من البيانات المؤيدة لثورة شعب مصر في 25 يناير/كانون ثاني 2011. جاءت هذه البيانات لتؤكد على أحقية الشعب المصري في الاحتجاج السلمي على الأوضاع السيئة القائمة. وحين بدأت معالم الثورة في الوضوح، نادت الكنيسة الإنجيلية بمدنية الدولة وحقوق الإنسان والأقليات في التعبير والاعتقاد. وتعقد الكنيسة الإنجيلية على المستويات الوطنية والمحلية العديد من المحاضرات وندوات التوعية لحفز الإنجيليين على المشاركة السياسية الفعالة. وعلى الرغم من الغياب القسري للكنيسة الإنجيلية في الأعوام الخمسين الأخيرة عن القيام بأي نشاط سياسي ملحوظ، فإن مشاركة الكنيسة في فاعليات الثورة المصرية من خلال الأفراد والكنائس المحلية يعد مؤشرًا هامًا لبداية نهضة حقيقية نحو استعادة الكنيسة دورها النبوي الفاعل، وليس فقط مواكبة وتأييد ما يحدث حولها من أحداث، وما فيه من تملق للحاكم وإنكار للدور الذي من أجله وجدت الكنيسة في العالم.
خاتمة
وفي الختام فإنه يمكن القول بأن الكنيسة الإنجيلية بمذاهبها المختلفة كانت ومازالت تلعب دورًا حيويًا في حياة بلادها. وإن كانت الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد أبعدت الكنيسة عن القيام بدورها النبوي، إلا أن أهمية هذا الدور لم تقل عبر السنين. فحين وجدت الكنيسة الفرصة سانحة للقيام بدورها قامت به بكل فاعلية. ولعل هذه الدراسة البانورامية تكون قد ألقت قدرًا من الضوء على بعض ما قامت به الكنيسة الإنجيلية المصرية وبتاريخها مع الاعتراف بأن هذا الدور يحتاج للمزيد والمزيد من الدراسة والتسجيل والتحليل واستخلاص الدروس التي تساعد الأجيال القادمة على الانخراط الفاعل في حياة الوطن وتقديم نموذج يحمل قيم ملكوت الله وينشر مبادئ إنجيل المسيح للمجتمع المصري والعربي والشرق-أوسطي.
المراجع
أولاً: المراجع العربية:
توماس، عماد. حوارات وقضايا القاهرة: المؤلف، 2008.
جيد، نظير. ثم قال الله ليكن نور، مقالات في مجلة مدارس الأحد، العدد 9-10 نوفمبر وديسمبر 1951.
سلامة، أديب نجيب. تاريخ الكنيسة الإنجيلية في مصر والسودان. القاهرة: دار الثقافة، 1982.
________. الإنجيليون والعمل القومي. القاهرة: دار الثقافة، 1993.
عبد الفتاح، نبيل. محرر، تقرير الحالة الدينية في مصر. القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتـيـﭽية بالأهرام، 1995.
لمعي، اكرام. الوجه الآخر للكنيسة. القاهرة: دار الثقافة، 1997.
مجلة الهدى، العدد 1134، مارس وأبريل 2011.
ويصا، حنا فهمي. أسيوط حدوتة عائلة مصرية. بدون دار نشر، بدون بلد النشر، 1996.
ثانياً: المراجع الإنجليزية:
Elder, Earl E. Vindicating a Vision: The Story of the American Mission in Egypt 1854 -1954, Philadelphia: The United Presbyterian Board of Foreign Missions, 1958.
Hewitt, Gordon the Problem of Success: A History of the Church Missionary Society 1910-1942, Vol. I, London: SCM Press Ltd, 1971.
Lansing, Gulian Religious Toleration in Egypt: Official Correspondence Relating to the Indemnity Obtained for the Maltreatment of Faris El-Hakim, An Agent of the American Missionaries in Egypt, London: Privately printed, 1862.
Richter, Julius. A History of the Protestant Missions in the Near East, Edinburgh: Oliphant, Anderson and Ferrier, 1910.
Stock, Eugene. ed. The History of the Church Missionary Society: Its Environment, Its Men and Its Work, vol. 1. London: Church Missionary Society, 1899.
UPCNA, Board of Foreign Missions, The 50th Annual Report of the American United Presbyterian Mission in Egypt for the Year 1904, Philadelphia: Board of Foreign Missions, 1904.
Virtue, David W. A Vision of Hope: The Story of Samuel Habib, One of the Arab World’s Greatest Contemporary Leaders and his Plan for Peace in the Strife-torn Middle East where the Cross and the Crescent Meet and where Bible, Koran and Torah vie Centre Stage, Oxford: Regnum Books International, 1996.
Wahba, Tharwat. The Practice of Mission in Egypt: A Historical Study of the Integration between the American Mission and The Evangelical Church of Egypt, 1854-1970, London: Lanham Monograph, 2016.
Watson, Andrew. The American Mission in Egypt 1854 to 1896, 2nd ed. Pittsburgh: United Presbyterian Board of Publication, 1904.
Whately, M. L. Among the Huts in Egypt: Scenes from Real Life. London: Seeley, Jackson, & Halliday. 1871.